الأحد، 4 سبتمبر 2016

التوافق بين التفعيلة العروضية والصيغة الصرفية

بحث منشور في مجلة البيان الكويتية العدد 539 يونيو 2015.

   يقوم الوزن على تكرار التفعيلة التي تعد "وحدة قياس صوتية تقاس بها الأصوات المنطوقة في بيت من الشعر"[1]، وهذه التفعيلات العروضية تشابه الصيغ الصرفية من جوانب؛ منها أن الجذر الذي اختاره الخليل -رحمة الله عليه- لقياس الأوزان مستخدمٌ عند الصرفين وهو (فعل) كما هو معروف في الميزان الصرفي وغيره كأبواب الأفعال الثلاثية الستة المعروفة: فعَلَ يفعُلُ، وفعَلَ يفعِلُ، وفعلَ يفعَل.. قال الدماميني: "اختار العروضيون للأجزاء الدائرة بينهم في وزن الشعر الفاء والعين واللام اقتفاءً لأهل الصرف في عادتهم وزن الأصول بهذه الحروف، فحذوا حذوهم في مُطلق الوزن بها لما كان على ثلاثة أحرف مع قطع النظر عن الأصالة والزيادة، وأضافوا إلى ذلك من الحروف الزوائد سبعةً وهي الألف والياء والواو والسين والتاء والنون والميم"[2]. ومع ذلك يبقى هذا التشابه تشابها سطحيا؛ إذ إن الفلسفة التي اُختيرت لأجلها التفعيلة العروضية تختلف عنها في الصيغة الصرفية. والتشابه الأقرب هو قولهم معللين سبب تسمية الفعل المضارع بهذا الاسم: بأنه ضارعَ -أي شابه- صيغة اسم الفاعل من حيث المتحرك والساكن[3]، ومعرفة الساكن من المتحرك شيء أساس في علم العروض. كما أن بعض التفعيلات العروضية قد يعتورُ بنيتَها تغييرٌ ناشئ عن إصابتها بزحاف أو علة، فتظهر في بنى غريبة بعض الشيء بعيدا عما ألفته الأذن، وهنا يسعى العروضي إلى التخلي عن بنيتها هذه مستبدلا إياها بصيغ مأنوسة في السمع، ومألوفة في الأذواق، ويمثل هذا الأمر أحد مظاهر استفادة علماء العروض من علم الصرف؛ فمن ذلك أن تفعيلة (مستفعلن) إذا أصابها الخبن فصارت (متفعلن)، فعادة ما تُحوَّل (متفعلن) هذه إلى (مُفاعلِن)، وهي كما نرى صيغة اسم فاعل، نحو مُجاهِد، ومُناسِب.. وإذا أصاب (مستفعلن) الطي فصارت (مستعلن)، فعادة ما تنقل مستعلن هذه إلى (مُفتعِلن)، وهي صيغة اسم فاعل أيضا نحو مُجتهِد، ومُقتسِم.. كذلك تفعيلة (فَعِلُن) التي تطابق إحدى أوزان الصفة المشبهة نحو: حَذِر، و فَرِح.. أيضا و(فعولن) التي تطابق إحدى صيغ الصفة المشبهة أيضا، مثل حنون، وعطوف.. وهذه الأمثلة وغيرها تثبت وشائج الترابط بين علم العروض وعلم الصرف في إطار باب الوزن[4]. ومع أن وظيفة التفعيلة العروضية هي تنظيمُ دفقات الصوت بعيدا عن المعنى وأبنية الكلمات، إلا أنها قد تجبر الشاعر –في بعض المواضع- على اختيار بعض الصيغ الصرفية التي تخدمه في إقامة الوزن، وخاصة في الضرب -الكلمة الأخيرة في البيت- لأن بعض الصيغ الصرفية مناسبة جدا لبعض الأضرب إن لم تطابقها، كما أن هناك صيغا تحمل حروف القافية التي تَلزم الشاعر في قصيدته كلها، ومثال ذلك الضرب الثاني لبحر الطويل (مفاعلن) الذي جعل أبا فراس الحمْداني ينتقي من الصيغ الصرفية ما يسد به مكانه في إحدى قصائده، فوجد ذلك في اسم الفاعل مسبوقا بحرف متحرك، فقال[5]:
لعل خيال العامريـ(ـة زائرُ)


فيسعدَ مهجورٌ ويسعــ(ــدَ هاجرُ)
وقد كنت لاأرضى من الوصل بالرضا


ليالي ما بيني وبينـ(ـكَ عامرُ)
تقولُ إذا ما جئتها متدرعا


أزائرُ شوقٍ أنت أم أنـ(ـتَ ثائرُ)
ظللتُ لها والركبُ والحي كلهُ


حيارى إلى وجهٍ به الحسـ(ـنُ حائرُ)
ويا عفّتي مالي ومالك كلما


هممتُ بأمر هَمَّ لي منـ(ـكِ زاجرُ)
فما بين الأقواس عبارة عن: (حرف متحرك + اسم فاعل)، وقد استفاد أبو فراس من صيغة اسم الفاعل في قصيدته هذه فائدتين: الأولى: أنه سد بها ما تبقى من وزن البيت. والأخرى: أن هذه الصيغة تحمل حرفا من حروف القافية يلزم الشاعرَ في كل أبيات هذه القصيدة وهو حرف التأسيس[6]، لذلك استخدم هذه الصيغة بكثرة في الضرب ولم يستخدمها في العروض إلا مرة واحدة في مطلع القصيدة، مع أن تفعيلتي العروض والضرب متساويتان في هذه القصيدة (مفاعلن)؛ فلعل حرف التأسيس كان من أسباب استدعاء الشاعر لهذه الصيغة الصرفية. ثم نجده ينتقي لضرب قصيدته السابقة صيغة (فعائل[7]) التي جاءت موافقة لتفعيلة الضرب (مفاعلن) من غير زيادة أو نقص، قال:
وفي كِلَّتي ذات الخباء خريدةٌ


لها من طِعان الدارعين (ستائرُ)
تثنّتْ فغصنٌ ناعمٌ أم شمائلُ


وولّتْ فليلٌ فاحمٌ أم (غدائرُ)
كأن الحجا والصون والفضل والتقى


لديَّ لربّات الخدور (ضرائرُ)
وواضح في هذه الأبيات أن صيغة (فعائلُ) سدّت مكان تفعيلة الضرب (مفاعلن)، كما أن هذه الصيغة حملت معها حرف التأسيس، ولهذا كررها الشاعر عدة مرات.
وعندما جاء أبو فراس عند تفعيلة (فعولن) في ضرب مخلع البسيط، وهي تفعيلة تطلب الردف[8]، استعان عليها بصيغة (فعيل[9])، قال[10]:
اللوم للعاشقين لومُ


لأن خطب الهوى عظيمُ
أسلمني الصبحُ للبلايا


فلا حبيبٌ ولا نديمُ
أنختُ فيهنّ يعملاتٍ


ما عهدُ إرقالها ذَميمُ
وفي أبيات تلي الأبيات السابقة يأتي بـ: عميمُ، وقديمُ، وجسيمُ، وكريمُ، ونظيمُ، وحطيمُ، وكل هذه على صيغة صرفية واحدة وموافقة لتفعيلة ضرب مخلع البسيط (فعولن)، وتحمل الردف الذي يلزم الشاعر في القصيدة كلها.
وفي ضرب الوافر (فعولن) استفاد أبو فراس في إحدى قصائده من صيغة (فعْل[11]) مسبوقة بحرف ليسد بهما مكان تفعيلة الضرب، قال[12]:
وعيشُ العالمين لديـ(ـكَ سهْلُ)


وعيشي وحدهُ بفنا(كَ صَعْبُ)
إلى كم ذا العقاب وليـس جُرْمٌ


فقل ما شئت فيَّ فلي لسانٌ
وكم ذا الاعتذارُ وليـ(ـسَ ذَنْبُ)

مليءٌ بالثناء عليـ(ـك رَطْبُ)


ثم يأتي بعد هذه الأبيات بـ: ندْبُ، وعَضْبُ، وخَطْبُ.. وقافية هذه القصيدة لا تحتوي على تأسيس ولا ردف فلذلك جاءت هذه الصيغة الصرفية الخالية من حروف المد واللين مناسبة لملء مكان التفعيلة الأخيرة.
وفي الرجز وجد أبو فراس في (جمع التكسير + ها المؤنثة الغائبة) ما يسد به مكان (مستفعلن)، قال[13]:
أبلغ بني حمدان في (بلدانها)


(كهولها) والغرّ من (شبّانها)
يوم طردتُ الخيل عن (فرسانها)


وسقتُ من قيسٍ ومن (جيرانها)
ثم يأتي بـ: أشطانها، وشجعانها، ورعيانها.. وقد توافقت هذه الكلمات مع تفعيلة الرجز، كما أن هذه الجموع تحمل هاء الوصل وألف الخروج[14] وهذا ما جعل الشاعر يستخدمها في القصيدة كلها. وانتقاء الشاعر ما يخدم ضرب قصيدته من الصيغ الصرفية كثير جدا في الشعر، أما الحشو فتكاد تنعدم هذه الظاهرة في بعض البحور، وتظهر في بحور أخرى على استحياء، ذلك أن الشاعر يتعمدها ليثري بيته موسيقيا ويرفع من نغم إيقاعه، فهو ليس ملزما بها في الحشو؛ وإنما يتكلفها إذا أراد أن يزخرف بيته، ومن ذلك قول أبي فراس في قصيدة من الخفيف، قال[15]:
فاتراتٌ
قواتلٌ
فاتناتٌ
فاتكاتٌ
سهامها
بالقلوبِ
فاعلاتن
متفع لن
فاعلاتن
فاعلاتن
متفع لن
فاعلاتن
تَوافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
وفي هذا البيت توافقت جميع الكلمات مع تفعيلتي بحر الخفيف، ولعله خبنَ (مستفعلن) في الصدر والعجز لتوافق (قواتلٌ) و (سهامها)، وقد تولّد عن ذلك إيقاع جديد أضفى على إيقاع الخفيف رشاقة وطلاوة. وقال في قصيدة أخرى[16]: [من الطويل]
وإنَّ
معاليِهِ
لَكُثْرٌ
غَوالِب
وإنَّ
أياديهِ
لَغُرٌّ
غرائرُ
فعولُ
مفاعيلن
فعولن
مفاعلن
فعولُ
مفاعيلن
فعولن
مفاعلن
تَوافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
وقد وافقَ في هذا البيت بين جميع تفعيلات الطويل وأبنية الكلمات، حتى إنه قبضَ (فعولن) في أول الصدر والعجز لكي توافق (وإنَّ)، كما أنه قابلَ بين المورفيمات الصرفية نفسها في كلا الشطرين:
وإنَّ : وإنَّ
معاليِهِ : أياديهِ
لَكُثْرٌ : لَغُرٌّ
غَوالِب : غَرائِر.
وقد استطاع أبو فراس بهذا التماثل العروضي الصرفي المورفيمي أن يزيد من نغم هذا البيت وأن يرفع من إيقاعه. ومثل هذا نجده عند ابن زيدون في قوله[17]: [من الطويل]
عطاءٌ
ولا مَنٌّ
وحكْمٌ
ولاهوىً
وحِلْمٌ
ولاعجْزٌ
وعِزٌّ
ولاكبرُ
فعولن
مفاعيلن
فعولن
مفاعلن
فعولن
مفاعيلن
فعولن
مفاعلن
تَوافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
وهنا بدأ ابن زيدون بكلمة (عطاءٌ) وهي رباعية سدت مكان التفعيلة (فعولن) بلا إضافات، ثم جاء بعدّة مصادر ثلاثية منونة مسبوقة بالواو لتملأ مكان (فعولن) في البيت، فقال: وحكْمٌ، وحلْمٌ، وعزٌّ. أما تفعيلة الطويل الأخرى (مفاعيلن) فتطلبت منه واوا + نفي بلا + اسم ثلاثي، فأتى بـ ولا منٌ، ولا هوىً، ولا عجزٌ، ولا كبرُ. وبهذا الانتقاء الذكي كسا ابن زيدون بيته بإيقاع مقسّم رائع.
أما أبو تمام فقد وجدته يتعمد التوافق الصرفي مع بعض تفعيلات الكامل، قال[18]:
أي الرجال
على الزمان
مُساعدي
ومُحالفي
ومُصاحبي
ومُعاقِدي
مستفعلن مُـ
ـتفاعلن مـ
ـتفاعلن
متفاعلن
متفاعلن
متفاعلن
انزيـــاح
تَوافق
توافق
توافق
وفي عجز هذا البيت استخدم صيغة (مُفاعِل[19]) مسبوقة بواو العطف ومتبوعة بياء المتكلم، فطابقَ بها تفعيلة الكامل (متَفاعلن). ثم يكرر هذه الظاهرة في بيت بعد هذا بأبيات قليلة، فيقول:
فقرٌ خُصِصْتُ
به وطولُ
بليَّتي
ووَصابَتي
وتَغرُّبي
وتَباعُدي
مستفعلن مُـ
ـتفاعلن مـ
ـتفاعلن
متفاعلن
متفاعلن
متفاعلن
انزيــاح
تَوافق
توافق
توافق
وهنا وافقَ أيضا بين تفعيلات العجز والكلمات. وقال في إحدى همزياته[20]:[من الكامل]
اسكتْ فأين
ضياؤهُ
وبهاؤه
وذكاؤهُ
ووفاؤهُ
وحياؤه
مستفعلن مُـ
ـتفاعلن
متفاعلن
متفاعلن
متفاعلن
متفاعلن
انزيــاح
تَوافق
تَوافق
توافق
توافق
والتوافق هنا أكثر كما هو واضح، فقد وافق أبو تمام بين أربع تفعيلات وأربع صفات مسبوقة بواو العطف ومضافة إلى هاء الغيبة. ومثل هذا نجده عند أبي القاسم الشابي في قصيدة له بعنوان (الطفولة)[21]، قال: [من مجزوء الكامل]
إن الطفولة حقبةٌ


شعريّةٌ بشعورها
ودموعها وسرورها


وطموحها وغرورها
وقد وافق الشابي في هذين البيتين بين التفعيلات والكلمات ما عدا صدر البيت الأول، فأتى بـ شعريّةٌ، بشعورها، ودموعها، وسرورها، وطموحها، وغرورها. وكلها توافق تفعيلة الكامل.
   وبعض التفعيلات تغري الشعراءَ بملئها بكلماتٍ لا ينزاحُ منها حرفٌ واحد إلى التفعيلة التي تليها؛ ومن تلك التفعيلات (فاعلاتن) وخاصة إذا تكررت كما في بحر الرمل، ومثال ذلك قول أبي القاسم الشابي[22] من الرمل الثاني:
وضياءٍ
وظلالٍ
ودُجى
وفصولٍ
وغيومٍ
ورعودْ
فعلاتن
فعلاتن
فَعِلن
فعلاتن
فعلاتن
فعلان
تَوافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
ثم يقول: "من طيورٍ وزهورٍ وشذى"، ويقول: "وبحارٍ وكهوفٍ وذرى"، ويقول: "وثلوجٍ وضبابٍ عابرٍ".. وكل هذه الكلمات مقسّمة على تفعيلات الرمل، وقد استفاد من زحاف الخبن في عمليته هذه. ومثال ذلك أيضا قول الوليد بن يزيد[23]: [مجزوء الرمل]
علّلاني واسقياني


من شرابٍ أصبهاني
كلّلاني توّجاني


وبشِعري غنياني
أطلقاني بوثاقي


واشدداني بعناني
وقد كرر الوليد في هذه الأبيات (فعل الأمر + ألف الاثنين + نون الوقاية + ياء المتكلم) سبع مرات؛ كما أنه قسّم الكلمات الأخرى على التفعيلات، وكان يخبن التفعيلة إن تطلبت منه الصيغة الصرفية ذلك، ولعله راعى بذلك الغناء؛ لأن مجزوء الرمل بحر غنائي، وهذا التقسيم الذي تعمده الوليد يزيده خفة ورشاقة.
   ومن البحور التي يكثر فيها تماثل الصيغ الصرفية مع التفعيلات العروضية البحر المتقارب؛ ولعل سبب ذلك تفعيلةُ (فعولن) التي توافق كثيرا من أبنية الأسماء والأفعال، كما أن هذا البحر يسمح بقبضها لتصبح (فعولُ)، ويسمح بحذفها في العروض والضرب لتصبح (فعو)، وكل أشكال هذه التفعيلة لها ما يوافقها من الصيغ الصرفية، فكأن وزن المتقارب يتيح للشاعر انتقاء بعض الصيغ بقصد أو بغير قصد. ومن شواهد توافق تفعيلة المتقارب مع الصيغ الصرفية بيتُ امرئ القيس[24] الذي يستشهد به العروضيون على قبض (فعولن):
أفادَ
فجادَ
وسادَ
فزادَ
وقادَ
فذادَ
وعادَ
فأفضلْ
فعولُ
فعولُ
فعولُ
فعولُ
فعولُ
فعولُ
فعولُ
فعولن
تَوافق
توافق
تَوافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
وقد استخدم امرؤ القيس فعلا ماضيا رباعيا في بداية البيت ليوافق به (فعولُ)، ثم راح يعطف عليه أفعالا ثلاثية وافقت مع حروف العطف قبلها تفعيلة المتقارب المقبوضة، عدا الضرب الذي استخدم له فعلا رباعيا مسبوقا بحرف عطف، ولهذا جاءت تفعيلته سالمة.
ومن أمثلة التوافق بين الصيغ الصرفية وتفعيلات المتقارب قول أبي القاسم الشابي[25]:
قويٌّ
غلوبٌ
كسحْرِ
الجفونِ
شجيٌّ
لعوبٌ
كزهرٍ
حزينْ
فعولن
فعولن
فعولـ
ـن فعولُ
فعولن
فعولن
فعولن
فعول
توافق
توافق
انزيــاح
توافق
توافق
توافق
توافق
ثم يوافق بين التفعيلات والكلمات في كثير من أشطر هذه القصيدة فيقول: "أعادَ لنفسيْ خيالاً جميلاً"، ويقول: "وظلَّ شريداً وحيداً بعيداً"، ويقول: "شجيٌّ قويٌّ جميلٌ غلوب"، ويقول: "بصوتٍ بهيجٍ فروحٍ طروب".. وفي قصيدة له أخرى مطلعها "أراكَ فتحلو لديَّ الحياة"[26] قال: "وتنمو بصدري ورودٌ عذابٌ"، وقال: "وليلٍ يفرُّ وفجرٍ يكرُّ".. وفي كل هذه توافق ما بين التفعيلات والكلمات، وكثرة هذا التوافق دليل على أن المتقارب من أنسب الأوزان لهذه الظاهرة، فيكاد لا يخلو منها ديوان، ومن أمثلتها في شعر أحمد شوقي قوله[27]:
ظمئتُ
ومثلي
بِرَيٍّ
أحقُّ
كأني
حسينٌ
ودهري
يزيدْ
فعولن
فعولن
فعولن
فعولُ
فعولن
فعولن
فعولن
فعول
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
ويقول في القصيدة نفسها: "سنونٌ تُعادُ ودهرٌ يُعيدْ"، وكل هذه الكلمات توافق تفعيلة المتقارب. ومن أمثلة مرونة تفعيلة المتقارب ومناسبتها برُخَصِها لكثير من الصيغ قول أبي فراس[28]:
وإنّيْ
عليكَ
لجاري
الْدموعِ
وإنّيْ
عليكَ
لَصبٌّ
وَصِبْ
فعولن
فعولُ
فعولـ
ن فعولُ
فعولن
فعولُ
فعولن
فعو
توافق
توافق
انزياح
توافق
توافق
توافق
توافق
وهنا قبضَ التفعيلةَ الثانية لتوافق كلمة "عليكَ"، وأتى بكلمة "وَصِبْ" لتسد مكان "فعو" المحذوفة. ولكن ثمة ملاحظة وهي أن بعض الكلمات التي جاءت في هذا البيت موافقة لتفعيلة المتقارب لم تكن مجردة البنية، بل بزوائد كقوله "وإني" المكونة من (واو عطف + إنّ + ياء المتكلم)، وهذه كلها مجتمعة سدت مكان تفعيلة المتقارب، ومثلها الكلمة التي تليها "عليك" المكونة من (على + كاف الخطاب)، وهذه الأخيرة طلبت منه أن يقبض التفعيلة فقبضها؛ فالشاعر في كل توافق لا يُنهي التفعيلةَ إلا والكلمة منتهية معها، فإن خدمته ببنيتها المجردة وإلا أضاف عليها ما يسد به ما تبقى من التفعيلة، أو أنقص منها مستفيدا من زحافات البحر. وتفعيلة المتقارب بزحافاتها تُغري الشعراء بالتوفيق بينها وبين صيغ الكلام كما أسلفنا، ومثل المتقارب صنوه المتدارك، والرابط بين الاثنين التفعيلة الخماسية المكررة. ومثال التوافق في البحر المتدارك قول إبراهيم طوقان[29]:   [مجزوء المتدارك]
وانهضوا
وارفعوا
عاليا
مجدكمْ
خالداً
ساميا

فاعلن
فاعلن
فاعلن
فاعلن
فاعلن
فاعلن

توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
كما أن تفعيلة المتدارك المخبونة (فَعِلن)[30] كثيرا ما تتوافق هي الأخرى مع صيغ الكلام، ومثالها[31]:
أُممٌ
ذهبتْ
وأتتْ
أممٌ
ومضى
زمنٌ
وأتى
زمنٌ
فَعِلن
فَعِلن
فَعِلن
فَعِلن
فَعِلن
فَعِلن
فَعِلن
فَعِلن
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
توافق
أيضا و (فعْلن)[32]، ومثالها قول أحمد شوقي:
تحيا
روما
يحيا
قيصرْ
روما
العضمى
أبداً
تُنصرْ
فَعْلن
فَعْلن
فَعْلن
فَعْلن
فَعْلـ
ـن فَعْلن
فَعِلن
فَعْلن
توافق
توافق
توافق
توافق
انزيــاح
توافق
توافق

 وكل توافق بين الصيغ الصرفية والتفعيلات العروضية يُحدث إيقاعا زائدا في البيت، خاصة إذا كان البحر مزدوج التفعيلة، أو إذا قسّمَ الشاعرُ كل صيغ البيت –أو أكثرها- على التفعيلات، ولهذا الغرض تكلّفه بعض الشعراء، أما استخدام بعضهم صيغةً معينة ليسد بها تفعيلة العروض أو الضرب فهذه لا تُحدث إيقاعا، ولا يلجأ إليها الشاعرُ غالبا إلا مرغما من الوزن أو من أحرف القافية، وما أوقع الشاعر جبران خليل جبران في خطئه الشهير في قصيدة (المواكب) إلا سطوة الوزن عندما قال في مطلعها[33]: [من البسيط]
الخيرُ في الناس مصنوعٌ إذا جُبروا


والشر في الناس لا يفنى وإن قُبِروا
أراد (أُجبِروا)[34] فأتى بـ(جُبروا) لأنها توافق عروض البسيط المخبونة (فَعِلن)، ولو أتى بالكلمة صحيحةً لانكسر الوزن.
   إذن، فالشعراء أمام هذه الظاهرة شاعران: شاعر يتعمدها لينمّق بيته بمزيد إيقاع، وشاعرٌ مُرغم تشتد عليه حرية الانتقاء اللغوي؛ لأن لكل تفعيلة عروضية ما يوافقها بتمامها من الصيغ الصرفية وبكثرة، وبمجرد اختيار الشاعر وزنا من الأوزان تتحدد أمامه صيغ صرفية معينة، وفي تمثيل الدكتور عبدالله الطيب المجذوب لبحور الشعر خيرُ دليل على ذلك، فعندما أراد أن يمثل للبحر الطويل قال:
دجاجٌ دجاجاتٌ دجاجٌ دجاجاتٌ ** دجاجٌ دجاجاتٌ دجاجٌ دجاجاتٌ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ** فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن[35]
ويمثّل للمتدارك بقوله:
كاتبٌ جالسٌ لاعبٌ ضارب ** قاتل ضاحك سامع كاذب[36]
ويمثّل لمخلع البسيط بقوله:
مُستفهمٌ فاهمٌ فهيمُ ** مُستعلمٌ عالِمٌ عليمُ[37]
ويمثّل للرمل بقوله:
ضارباتٌ سابحاتٌ عائماتُ ** راقصاتٌ لابساتٌ عارياتُ[38]
ويمثّل للسريع بقوله:
مستفسرٌ مستخدمٌ خادمُ ** مُستخبرٌ مُستدرِجٌ صائمُ[39]
ويستمر بالتمثيل لكل وزن بانتقاء صيغ صرفية يسد بها قوالب الوزن دون نقص أو زيادة، وما فعل ذلك إلا لأن المقام مقام تعليم وتعريف بالوزن، وهذا لا يتطلب منه صنع كلام له معنى، وفي طريقته هذه دليل على أن لكل تفعيلة عروضية ما يماثلها من الصيغ الصرفية وبكثرة، ولكن الأمر الذي لا يخلو من الصعوبة هو التوفيق بين التفعيلة العروضية والصيغة الصرفية دون إخلال بالمعنى أو تفكيك لنسيج البيت.
...........................
المراجع
– إبراهيم طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين، 2002م.
- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، لابن هشام، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، دار الطلائع، القاهرة، 2009م.
- الإقناع في العروض، للصاحب بن عباد، تحقيق: د. أحمد محمد سليمان، و د. إبراهيم جابر علي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2013م.
- البناء العروضي للقصيدة العربية، د. محمد حماسة، دار غريب، القاهرة، 2007م.
- ديوان أمير الشعراء أحمد شوقي، تحقيق: محمد نعيم بربر، المكتبة العصرية، بيروت، 2010م.
- ديوان ابن زيدون ورسائله، شرح وتحقيق: علي عبدالعظيم، مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري، الكويت، ط3 2004م.
- ديوان الوليد بن عبدالملك، تحقيق: د.حسين عطوان، دار الجيل، بيروت، ط1، 1998م.
- ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط5.
- شرح ديوان أبي فراس الحمداني، لابن خالويه، تحقيق: د. محمد بن شريفة، مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، الكويت، 2000م.
- العروض تهذيبه وإعادة تدوينه، للشيخ جلال الحنفي، مطبعة العاني، الجمهورية العراقية، 1978م.
- العيون الغامزة على خبايا الرامزة، للدماميني، تحقيق: الحساني حسن العبدالله، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1994م.
- أغاني الحياة، أبو القاسم الشابي، طبعة المائوية، دار نقوش عربية، تونس، 2010م.
- الفصول، لعباس محمود العقاد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، 2012م.
- القوافي، للأخفش، تحقيق: أحمد راتب النفاخ، دار الأمانة، ط1، 1974م.
- كتاب الكافي في العروض والقوافي، للخطيب التبريزي، تحقيق: الحساني حسن عبدالله، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 2001م.
- المجموعة الكاملة لجبران خليل جبران، تقديم د. جميل عمر، دار الجيل، بيروت، 2010م.
- المرشد إلى فهم أشعار العرب، د. عبد الله الطيب المجذوب، دار الآثار الإسلامية، الكويت، 1989م.
- المستوفى من شعر أبي تمام، تحقيق: د. محمد مصطفى أبو الشوارب، مؤسسة جائزة البابطين، الكويت، 2014م.
- معجم الأوزان الصرفية، د. إميل يعقوب، عالم الكتب، بيروت، ط1، 2011م.
- "منزلة الوزن الصرفي بين الوزن العروضي والوزن التصغيري"، لمحمد عبدالجبار بو شعالة، بحث منشور في كتاب "الصرف بين التحويل والتصرف"، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، تونس، 2010م.



[1] - البناء العروضي للقصيدة العربية، د. محمد حماسة، ص 19.
[2] - العيون الغامزة على خبايا الرامزة، للدماميني، ص 26.
[3] - انظر: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، لابن هشام، 1/28.
[4] - انظر: "منزلة الوزن الصرفي بين الوزن العروضي والوزن التصغيري"، لمحمد عبدالجبار بو شعالة، ص291. مع التصرف.
[5] - ديوان أبي فراس، ص 22.
[6] - التأسيس: ألف يفصل بينها وبين الروي حرف واحد متحرك. انظر: الكافي، للتبريزي، ص 154.
[7] - فعائلُ: وزن من أوزان الاسم الثلاثي المزيد بحرفين، ويكون اسما ويكون صفة، كما أنه من أوزان جمع التكسير الذي للكثرة، وصيغة من صيغ منتهى الجموع. انظر: معجم الأوزان الصرفية، ص 138.
[8] - الردف: حرف مد أو حرف لين يسبق الروي مباشرة ويلزم في كل أبيات القصيدة. انظر: القوافي، للأخفش، ص 21.
[9] - فعيل وزن من أوزان الاسم الثلاثي المزيد بحرف، ويكون اسما نحو: قضيب، وصفة نحو: جميل. ووزن من أوزان الصفة المشبهة المشتقة من فَعَلَ نحو: عفيف، ومن فَعُلَ نحو: كريم، ومن فَعِلَ نحو: بخيل. وصيغة من صيغ المبالغة القياسية نحو: سميع. ومصدر للفعل الثلاثي المجرد الدال على السير نحو رحل رحيلا، أو على صوت نحو: صهل صهيلا.. انظر: معجم الاوزان الصرفية، د. إميل يعقوب، ص 217.
[10] - ديوان أبي فراس، ص 100.
[11] - فعْل: وزن من أوزان الصفة المشبهة غير القياسية من "فَعِل"، نحو سَبِط فهو سَبْطٌ، ومن "فَعُلَ"، نحو: ضَخُمَ فهو ضَخْمٌ. ووزن من أوزان مصدر الفعل الثلاثي، ووزن من أوزان الاسم الثلاثي المجرّد ويكون في الأسماء نحو: كَلْب، والصفات نحو: ضَخْم. انظر: معجم الأوزان الصرفية، د. إميل يعقوب، ص147.
[12] - ديوان أبي فراس، ص 134.
[13] - ديوان أبي فراس، ص 212.
[14] - هاء الوصل: هاء تلي حرف الروي المتحرك مباشرة. وألف الخروج: ألف تلي هاء الوصل مباشرة، وكلاهما يلزم الشاعر في القصيدة كلها. انظر: القوافي، للأخفش، ص 18، ص 20.
[15] - ديوان أبي فراس، ص 315.
[16] - ديوان أبي فراس، ص 53.
[17] - ديوان ابن زيدون، ص 580.
[18] - المستوفى من شعر أبي تمام، 7 / 116.
[19] - مُفاعِل: وزن اسم الفاعل، والصفة المشبهة من "فاعَلَ"، نحو "مُشارِك". انظر: معجم الأوزان الصرفية، د. إميل يعقوب، ص 248.
[20] -  المستوفى من شعر أبي تمام، 1/ 112.
[21] - أغاني الحياة، أبو القاسم الشابي، ص 41.
[22] - المرجع السابق، ص 37.
[23] - ديوان الوليد بن يزيد، ص 124.
[24] -  ديوان امرئ القيس، ص 471.
[25] - أغاني الحياة، أبو القاسم الشابي، ص 259.
[26] - المرجع السابق، ص 263.
[27] - ديوان أحمد شوقي، 2 / 439.
[28] - ديوان أبي فراس، ص 259.
[29] - إبراهيم طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 126.
[30] - وهو مايسميه بعض العروضيين: الخبب، وضرب الناقوس، والغريب، وركض الخيل.. وهو متدارك دخل الخبن على جميع تفعيلاته.
[31] - انظر: العروض تهذيبه وإعادة تدوينه، ص 221.
[32] - فعْلن هذه يختلف العروضيون في زحافها، فمنهم من يقول إن التشعيث دخل عليها، وهو حذف أول الوتد المجموع فتصبح فاعلن: فالن وتنقل إلى فعْلن، ومنهم من يقول دخلها القطع، وهو حذف ساكن الوتد المجموع الأخير وتسكين ما قبله فتتحول فاعلن إلى فاعل وتنقل إلى فعْلن.
[33] - المجموعة الكاملة لجبران خليل جبران، ص 417.
[34] - وأول من أشار إلى خطأ جبران هذا العقاد، انظر: الفصول، لعباس محمود العقاد، ص 50. وقد وقع جبران في خطأ آخر في القصيدة نفسها لم يذكره العقاد، وهو "هل تحممت بعطر" أراد استحممت، فأتى بتحممت العامية.
[35] - المرشد، لعبدالله الطيب، 1/ 435.
[36] - المرجع السابق، 1/103.
[37] - المرجع السابق، 1/130.
[38] - المرجع السابق، 1/ 156.
[39] - المرجع السابق، 1/ 180

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق