الخميس، 1 سبتمبر 2016

الصّخَرِي هزج وليس وافرا

بحث منشور في جريدة سبر الإلكترونية، 26/1/2015

   يدور بين كثير من نقّاد الشعر الشعبي وشعرائه أن الوزن المعروف باسم "بحر الصخري" هو بحر الوافر الفصيح بعد دخول زحاف العصب (تسكين الخامس المتحرك) على جميع تفعيلاته، والحق أن الصخري هزج وليس وافرا؛ لأن تفعيلة الوافر "مفاعلَتن" //0///0 بعد العصْب تصبح: مفاعلْتن //0/0/0 ومفاعلْتن هي مفاعيلن //0/0/0 وهذه الأخيرة تفعيلة الهزج، ومن ثم لا يصح حمل قصيدة تتكون جميع تفعيلاتها من مفاعيلن على بحر الوافر المعصوب؛ لأن مفاعيلن أصل في الهزج وفرعٌ في الوافر بسبب زحاف العصب، ولا يُحمل الهزج على الوافر إلا إذا وُجد تفعيلة واحدة غير معصوبة وإلا فهو هزج، والشعر الشعبي لا تدور فيه تفعيلة الوافر إطلاقا، لأن الوافر سمي وافرا لوفور حركاته، فهو كالكامل في عدد حركات أجزائه، والكلام العامي يميل إلى التخفيف، فيستحيل أن تجد فيه ثلاثة متحركات متتالية، لذلك لا وجود لبحري الكامل والوافر في الشعر الشعبي، والغريب أنهم يحمِلون الهزج على الوافر المعصوب ولا يحملون الرجز على الكامل المضْمَر!
   وأظن أن هناك سبباً آخرَ جعلهم يحملون الصخري على الوافر وهو بُنية التفعيلة الأخيرة في كلا الشطرين التي تشابه تفعيلة الوافر المقطوفة؛ والقطف في الوافر: اجتماع علة الحذف (إسقاط السبب الخفيف من آخر التفعيلة) مع زحاف العصب (تسكين الخامس المتحرك)؛ فتتحول مفاعلَتن إلى مفاعلْ //0/0 التي تُنقل إلى فعولن. وكأن من ظن هذا الظن قد نسي أن الهزج يدخل عليه أيضا "الحذف"؛ فتصبح مفاعيلن: مفاعي //0/0 التي ينقلها بعض العروضيون إلى فعولن. والحذف في الهزج أخفُّ من القطف في الوافر؛ لأن الحذفَ تغييرٌ واحدٌ والقطف تغييران! 
   فالصْخَري هزجٌ لم يأتِ في الفصيح وجاء في الشعبي؛ لأن أصل الهزج في دائرة المجتلب: مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن (ثلاث مرات) وهو وزن نصف بيت من أصل الهزج، ولكنه لم يرد في الفصيح إلا مجزوءا؛ أي بحذف تفعيلة من كل شطر، وقد جاء في الشعر الشعبي تاما مع دخول علة الحذف على مفاعيلن الأخيرة، لتصبح: مفاعي //0/0 ، فالصْخَري هزجٌ تامٌ محذوفُ العروض والضرب، تفعيلاته:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعي .. مفاعيلن مفاعيلن مفاعي
ومن أمثلته قول السديري:
حياتي كلها صبر وجلادة .. وغيري عايشٍ عيشة سعادة
حياتيكلـ / لهاصبرو / جلادة .. وغيريـعا / يشنْعيْشتْ / سعادة
مفاعيلن / مفاعيلن / مفاعي .. مفاعيلن / مفاعيلن / مفاعي
وظهور هذا الشكل للهزج في الشعر الشعبي، وهو لم يرد في الفصيح يكشف لنا جانباً من عبقرية الخليل بن أحمد الذي تَصوّرَ وزن هذا البحر قبل ولادته!
ومثله المديد؛ الذي أجمع العروضيون أنه لم يرد في الفصيح إلا مجزوءا، ونجده في الشعر الشعبي جاء تاما! يقول الدكتور إبراهيم أنيس متهكما على الخليل في كتابه موسيقا الشعر: "والغريب في أمر الخليل ومن نحا نحوه أنهم افترضوا للأوزان أصولا تطورت أو تغيرت حتى صارت إلى ما روي فعلا في الأشعار، أن أصل البحر المديد هو:
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن
مدّعين أنه ورد في الشعر وقد سقطت منه التفعيلة الأخيرة، ولعمري كيف تصوروا هذا؟! ومن أين جاءوا بمثل هذا الادعاء! وكذلك أن بحر الهزج كان في الأصل:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
لكنه لم يرد إلا مجزوءا أي سقطت منه التفعيلة الأخيرة." انظر: موسيقى الشعر، د.إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو، 2010، ص52، 53.
وقول الدكتور أنيس بناه على انعدام أمثلة تثبت وجود هذه الوزن في الشعر الفصيح، وقد فاته أنه ورد في الشعر الشعبي تاما كما تصوَّره الخليل (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن)، وأمثلته كثيرة؛ منها قصيدة سعد بن جدلان:
ودّنا بالطيب بس الدهر جحّاد طيب .. كل ما تخْلص مع الناس كنْك تغشّها
وقصيدة ناصر الفراعنة:
ناقتي يا ناقتي لا رباع ولا سديس .. وصليني لابتي من ورا هاك الطعوس
بل إن عبقرية الخليل اكتشفتْ بحورا لم تكن مستخدمة في الشعر الفصيح واستُخدمتْ في الشعر الشعبي؛ كبحرَي: "الممتد"، و "المستطيل" وهي ما تعرف بالبحور المهملة  في دائرة المختلف، فالممتد عكس المديد، وتفعيلاته:
"فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن" في كل شطر، ومثاله في الشعر الشعبي قول بدر بن عبدالمحسن:
كل أرض تشيلك يا ثقيل الحمول .. وكل وقت كريم بالرضا والزعل
وقول خالد الفيصل:
من خصايص عنود الصيد كثر الطواري .. عادة الظبي يجفل لا تحرك ظلاله

فلله هذا الرجل! أيّ عبقري كان؟! وأي عقل وُهِب؟!

د. عبد الله غليس




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق